الصوم السياسي- بين الاستراحة الإجبارية والنضال من أجل الحرية.

المؤلف: د. عمار علي حسن09.10.2025
الصوم السياسي- بين الاستراحة الإجبارية والنضال من أجل الحرية.

في شهر رمضان الفضيل، يلتزم المسلمون بالصيام وفقًا للشريعة الإسلامية، ولكن ماذا عن "الصوم السياسي"؟ في الواقع، يمتنع الناس عن المشاركة السياسية في بعض الأحيان، سواء بسبب الضجر والنفور، أو الخوف من تبعات الممارسة السياسية، أو ربما لرغبة في أخذ قسط من الراحة، يقضونه في تقييم تجاربهم السابقة، والتأهب لتجارب جديدة، يأملون فيها تجاوز الإخفاقات والعثرات. أو قد يكون السبب هو الإحساس بالكآبة الذي يصيب الفرد، وقد يتحول إلى حالة شاملة تؤثر في المجتمع بأسره.

فالضجر قد يتسلل إلى النفوس بعد فترة من الانخراط المكثف في الشأن السياسي، مما يدفع الناس إلى الإسهاب في الكلام والتحرك في شتى الاتجاهات، وإطلاق الأفكار دون قيود، فتتضارب وتتزاحم في العقول، بينما يتطلعون إلى تحقيق ما يسهم في تحسين ظروف الحياة، ولكن قد ينتهي بهم الأمر إلى التراجع والوقوع في متاهات التيه والضياع، فيظل الحاجز بين القول والفعل شامخًا وسميكًا، فتتعارك الكلمات وتفني بعضها بعضًا، أو تتصادم وتدور في مكانها دون جدوى، وقد تهوي إلى أعماق لا قرار لها، وتجر معها الراحة والاستقرار.

أما الخوف، فهو رفيق ملازم للاستبداد السياسي، الذي يجعل للتعبير عن الرأي في السياسة ثمنًا فادحًا، فالمستبدون يفضلون أن ينصرف المحكومون عن التفكير في أحوالهم، وإن فكروا فإنهم يكتمون ما يجول في خواطرهم، فلا مجال للبوح، ولا لتبادل الآراء، ولا للنقاش أو الجدال، الذي قد يفضح ما يجري، أو يولد رغبة في محاسبة المستبد، الذي يدعي دائمًا أنه الأعلم بمصالح الناس، وأن عليهم التسليم بذلك دون اعتراض أو تحرك.

والاستراحة من السياسة قد تكون خيارًا شخصيًا للبعض، وإجبارًا مفروضًا على آخرين. فمن الناس من يميلون بطبيعتهم، وبحكم ظروفهم وخلفياتهم التعليمية، إلى تجنب الخوض في السياسة، قولًا أو فعلًا، ومنهم من يغفل عن تأثير السياسة في تفاصيل حياتهم البسيطة واليومية، فيمتنع عن الحديث عنها، أو العمل بها، أو السعي إلى التفاعل مع المتخصصين فيها، من قادة الأحزاب والحركات الاجتماعية والنشطاء السياسيين.

وهناك من يدركون هذا الترابط الوثيق، لكنهم يفضلون الانصراف مؤقتًا إلى تحسين أوضاعهم الشخصية، انطلاقًا من إيمانهم بأن الاستقلال المادي الذي يحققه الفرد، يسهم في تعزيز قدرته السياسية، ويجعله أصلب عودًا في مواجهة تعسف السلطة ومكرها، مهما كان نوعها أو اتجاهها أو حجمها، أو مدى هيمنتها.

ويتم التعبير عن "الصوم السياسي"، بمفهوم النقيض، في استطلاعات الرأي والدراسات التي تهتم بقياس حجم "المشاركة السياسية" باعتبارها ركنًا جوهريًا في الممارسة الديمقراطية.

إذ تتناول هذه الاستطلاعات والدراسات إحجام الناس أو امتناعهم عن المشاركة السياسية بمختلف أشكالها، بدءًا من المشاركة في انتخابات الاتحادات الطلابية، ومجالس إدارات المباني السكنية، وأعضاء اللجان النقابية، وصولًا إلى الانتخابات البرلمانية والرئاسية، ومتابعة الأحداث السياسية العالمية، واتخاذ موقف إيجابي تجاهها.

هذا الإحجام أو الامتناع قد يمثل نوعًا من "الصوم السياسي"، لا سيما لدى أولئك الذين يرون أن الانشغال بالشأن العام هو ضرب من الترف أو اللغو أو الاعتراض على القدر والمشيئة، وذلك عند من يتمسكون بمقولة المسيح عليه السلام: "أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله"، أو يؤمنون بقاعدة "طاعة ولي الأمر واجبة" و"أطع السلطان وإن جلد ظهرك"، وحتى لدى من يتعمقون في الأمور والأشياء فيرون أن القوة المحركة للفعل السياسي أضخم وأقوى من أن يؤثر فيها أولئك الذين يكثرون الكلام ليل نهار في الشؤون العامة، متوهمين أن الحديث أو التحركات الفردية المتفرقة والمشتتة قادرة على تغيير موقف أو اتجاه، وصنع حدث مؤثر وفاصل في مسيرة الأمم.

يبقى مصطلح "الصوم السياسي" يحمل استعارة واضحة، تستمد معانيها من طقوس الصوم وشروطه، من امتناع وصبر وتحمل وتجنب وزهد، لتطبيقها على الممارسة السياسية، باعتبارها إحدى الشهوات المحرمة أو الشرور الظاهرة، أو ما يستحق اللعنة، كما عبر عن ذلك العالم والفقيه المجدد الإمام محمد عبده (1849-1905) حين لعن السياسة وكل مشتقاتها اللفظية، لأنها في نظره ما حلت بشيء إلا أفسدته، وذلك بعد أن فارق طريق أستاذه الثائر جمال الدين الأفغاني، وتجرع مرارة الفشل عقب إخفاق الثورة العرابية، وهو يقاسي في سجنه ومنفاه، فقال: "إني أعجب لجعل نبهاء المسلمين وصحفهم، كل اهتمامهم في السياسة، وإهمالهم أمر التربية، الذي هو جوهر كل شيء، وعليه يرتكز كل شيء".

هذه الاستعارة لم تجد لها مكانًا في قواميس السياسة ومعاجمها وموسوعاتها، وإن كان بالإمكان تلمسها في واقع الناس، الذي يشير إلى أن الصوم عن السياسة قد يحدث لدى فرد أو جماعة لفترة محدودة. لكنه، على أية حال، مجرد هروب سلبي، لأن السياسة متغلغلة في ثنايا الحياة وجوانبها، شئنا أم أبينا.

وهناك من يقارب هذه الاستعارة ليجعلها مطابقة للصيام بمعناه الديني والبيولوجي، حيث يحتاج السياسي إلى التحلي بالتقوى في التعامل مع منصبه، ومع المال العام، ومع خدمة الناس والتواصل معهم، والالتزام بالقانون، والكف عن النميمة السياسية.

وفي ظل هذا التقارب أو التطابق، يرى البعض ضرورة أن تصاحب ممارسة السياسة مع الصيام شروطًا وضوابط، فيمتنع أغلب الساسة عن الكذب والثرثرة والتهجم على الخصوم أو المنافسين، والغش والخداع وتضليل الجماهير.

وبذلك "تكبل أدوات السياسة، وتتوقف عن الدوران، أو يلجأ أصحابها إلى عزلتهم، ويمارسون الطاعة الذاتية انتظارًا للعيد، موعد الإفطار النهائي" كما يذكر حسن الرواشدة.

ويصبح الصيام السياسي فضيلة خاصة في أي بلد "يعاني من فوضى السجالات والكلام الفارغ والوعود الكاذبة، وأحيانًا يكون نوعًا من الهروب إلى الأمام، أو تعبيرًا عن حالة الفقر التي تتجلى بوضوح في شهر رمضان، وأحيانًا يكون إعلانًا عن مخاضات لم تتحدد معالمها بعد، أو عن انسدادات لم تجد القنوات التي تسمح لها بالتدفق" بحسب الرواشدة أيضًا.

وربما نجد تفسيرًا لذلك في تجربة الدكتور حسن جوهر، التي يعبر عنها قائلًا: "كتجربة متواضعة في العمل السياسي والنشاط الانتخابي تحديدًا أدرك تمامًا حجم التوتر العصبي، والرغبة الجامحة في كسب الأصوات ليس من خلال عرض الأفكار والرؤى الخاصة بالمرشح، وإنما عن طريق القدح والذم والافتراء على الآخرين، وقد تكون هذه طبيعة البشر، وهذه السلوكيات ثقافة مريضة استفحلت وتحولت إلى داء عضال، لكن لا خير فينا إن لم نتق شرور مثل هذه الآفات بحق بعضنا بعضًا، وبحق بلدنا الذي تكتنفه كل المصائب، على الأقل في هذه الليالي المباركة من شهر رمضان المعظم، أعاده الله على الجميع بالخير واليمن والبركات والأمن والأمان".

لكن الساسة المحترفين ينظرون بريبة إلى هذه المطابقة المجازية بين الصيام والسياسة، فها هو نبيه بري رئيس مجلس النواب اللبناني يرد على دعوة مماثلة قائلًا: "الصوم عن الكلام السياسي في الموضوع المتعلق بالشأن الحكومي، لا يعني إطلاقًا صومًا عن الكلام أو صمتًا حيال القضايا المطلبية والمعيشية للبنانيين عشية شهر رمضان المبارك، وعلى أبواب العام الدراسي الجديد.. كما أن الصوم عن الكلام لا يعني عدم قول الحقيقة في موضوع الإمعان في حرمان المتضررين جراء الحروب العدوانية الإسرائيلية، بعدم إعطائهم حقوقهم في التعويض عن الأضرار التي لحقت بمنازلهم، ومصادر رزقهم".

وهناك مجاز معاكس أو مضاد يحول "الصوم" إلى استراتيجية سياسية، أو على الأقل "تكتيك" سياسي، بمنحه معاني جديدة تربطه بالكفاح في سبيل العدالة والحرية، أو بجعله السلوك المضاد للمنافسة والصراع السياسي الشرس الذي يظهر فيه السياسيون كل أشكال البذخ والترف والرفاهية التي ينظمها مرشحو الانتخابات على سبيل المثال؛ بهدف الفوز، عن طريق شراء الولاءات وكسب الأنصار واستمالة ذوي النفوس الضعيفة.

ووفقًا لحميد شهاب، فإذا "كان الصوم من الناحية الفسيولوجية والنفسية نوعًا من التنظيف والتطهير، وبالتالي تجديد الجسم والروح بمنحهما دفعة حيوية ونشاط للاستمرار، فإننا نجد نفس الآلية في الصوم السياسي، أي الإضراب عن الطعام".

لقد شهدت التجارب السياسية للأمم استخدام الصوم في النضال، فقد نظمت بعض الولايات الأمريكية صومًا في معارك الاستقلال ابتداء من عام 1775، وكان له تأثير قوي على سلطة الاحتلال الإنجليزي، وصام المدافعون عن حق المرأة في التصويت في إنجلترا عام 1905.

ويبقى المثال الأبرز هو ما اتبعه المهاتما غاندي بدءًا من عام 1904 في كفاحه بالصوم والزهد ضد الإنجليز أيضًا. وفي هذه الحالات الثلاث، تحول ضعف الصوم إلى قوة روحية ونفسية هائلة، فكلما شعر الإنسان بضعف نفسي، ابتكر حيلًا دفاعية تمكنه من تحفيز نفسه لمواصلة المواجهة، كما يفعل الصائم حين يقاوم الجوع والعطش بتذكر أجر الصائم في الآخرة، أو حاجة جسده إلى بعض الجوع لتطهير نفسه من الشوائب، أو لصفاء الروح مع الجوع الذي كان يدركه المتصوفة، ولذا يسميهم البعض بـ "الجوعية"، أو حتى السعادة المصحوبة باللذة التي يعيشها الصائم حين يجلس إلى المائدة بعد ساعات طويلة من الجوع.

ويرى أصحاب هذا المنظور أن الصيام ليس تعذيبًا للذات، بل هو إعلان عن ميلاد الإرادة في مواجهة الغريزة، وقد يصوم الإنسان عن طيب خاطر تضامنًا مع الجياع في موقف يتعارض تمامًا مع متطلبات الغريزة، وفي نقطة الصوم، وكما يقول خالص جلبي، تتلاقى الفلسفة مع الدين والسياسة مع علم الأحياء، وتتحول علة الصوم، وهي التقوى، إلى حافز لتفعيل آليات الضبط الذاتي.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة